عالم منسوج من صمت، كيف وَهبنا الأمل؟ (رواية، بارت1) - *RAMAD عالم منسوج من صمت، كيف وَهبنا الأمل؟ (رواية، بارت1) - *RAMAD

الأحد، 17 يوليو 2016

عالم منسوج من صمت، كيف وَهبنا الأمل؟ (رواية، بارت1)





.
.



(رسمتي)


.
.



مقعد قاس، صالة انتظار مكتظة، وجوه جامدة بلا ملامح أو تعابير ...
الأيادي التي سأمت الانتظار تنهش شاشات الهواتف بتوتر..
في ركن قاعة الانتظار شخص مختلف، غارق في عالمه الخاص، امرأة تتشح بالسواد تهتز في مكانها ترقباً وحيرة، على صدرها يتكئ وجه ملائكي لطفل ما، يبدو غارقاً في احلامه اللذيذة، ترتسم على شفتيه الغضتين شبه ابتسامه... أجل تلك المرأة هي أنا وذلك الوجه الملائكي هو لطفلي "فارس" ... يا الله! شتان مابيني وبينه! كيف للأطفال ان لا يبالوا بما يحيط بهم من بؤس ويغرقون بهدوء في عالمهم الخاص؟ بعد قليل سينادى اسمه، سأضطر لدخول ذلك الباب الذي يطرقه الناس كل قليل ضاربين بعرض الحائط بتلك العبارة المكتوبة علية برجاءٍ سقيم "الرجاء عدم طرق الباب، يوجد مريض في الداخل"....
عندما أدخل ماذا قد يحدث؟ ربما سأعرف خبرا يبعث السكينة إلى قلبي المضطرب، وربما .. ربما خبر قد يبعثر عالمي لشظايا صغيرة..
أود أن أطمئن قلبي، أن أبعث رسائل إيجابية إلى روحي.. لكن لا! لست شجاعة بما فيه الكفاية لأتقبل مصيري!

أنا مجرد أنثى ضعيفة، خائفة ومرتعبة من المجهول الذي يتربصها بنية سوء...

.........


نقرة خفيفة على كتفي، نبرة حنونة وصلت إلى أذني: "مرايم لاتخافين، استغفري ربج دامنا منتظرين وخلج واثقه بربج ترا كل شي بيدينه"
ابتسمت له عيناي تلقائياً من خلف نقابي ثم همست:"موخايفة!"
لكن صوتي المتهدج، لمعان الدموع الزجاجي في عيني فضحا محاولتي الفاشلة في طمأنته..
رد علي بسخرية لطيفة لتغيير الجو:"موخايفة ها؟يرحم أمج لاتبجين وتفشلينا جدام الناس"
ضحكت بنشيج: "والله موبيدي"..
رمقني بعمق وعطف ثم تجاهلني وأخذ يداعب وجنتي فارس بحنو، فارس طفله الحبيب البكر...
نظرته تلك تعني ان هناك حديثا مطولاً عن الصبر وثبات المؤمن سيجري بعد عودتنا للمنزل، تنهدت بقوة فيما تبخترت أمامي الممرضة الفاتنة ذات الجنسية الهندية خارجة من غرفة العيادة، آمل فحسب ان يكون اسم فارس هو الذي ستناديه، "فاارس سالم ال..... " قالتها بلهجتها العربية المتكسره واخذت تبحث بعينيها عن المريض، وقفت بسرعه ضامة فارس بين يدي بقوة ويلحقني سالم .....


.
.
.
.


جدار بلون لبني صافي، لاشيء مميز به، إذا لم تنظر إليه عيناي وكأنه لوحة عظيمة ل"شاغال"؟
ملامحي مشدوهة! الصدمة اخرستني فماعاد بي صوت أو قوة، حتى أنني لازلت اجلس بعباءتي الآن!
عن يميني يتكيء سالم إلى ظهر الكرسي بإرهاق، ينظر إلي بطرف عينيه نظرات ترقب وقلق، يده تهز سرير فارس المتحرك كي يغفو، أظنه ينتظر انفجار الدموع الذي سيحدث ما إن أستوعب ماقالته الطبيبة اليوم..

لا أعلم مابي خارجي يبدو هادئ وفي داخلي تيارات من الارتباك والتيه، ما اخبروني به حطم عالمي المتكامل إلى شظايا صغيرة، صوت خافت بداخلي يتساءل "كيف لأحد أن يتقبل مثل هاته الأمور وهو يدمدم بعبارات الرضى والقناعة؟ كيف لي أن أفكر حول هذا الأمر بهدوء ومنطقية؟" يا الله! فارس طفلي!! أشهر طويلة ممتدة من العذاب الحلو كان خلالها يعيش في أحشائي، يسكن جوفي! كيف لي أن أتقبل بهدوء كون تلك القطعة مني، ذلك الجزء الحيوي من قلبي خلق أصماً؟ عاجزاً ناقصاً!!
يا الله كم أحب فارس، ولكن رغم محبتي المطلقة له، احيانا ظننت ان به شيء خاطيء؟ لطالما زجرني سالم بهدوء عن هذا التفكير البشع ! لكنني علمت، علمت جازمة ان فارس ينقصه شيء ما وإن كنت لم أدرك كنهه لحظتها، فقد كان يبدو دائماً حالماً، غارقاً في عالمه الخاص، لايلتفت لصوتٍ مطلقاً... رغم أني ظننته شيء أبسط من الصمم لكن ....... ها أنا قد تبينت صحة ظني ياسالم، من قال أن حدس الأم يخطئ؟
تذكرت قول الدكتورة بعطف :"آسفة، انتهى موعدنا اليوم سأمنحك بعض الوقت لتقبل الأمر لكن رجاء أود رؤيتكم الأسبوع القادم فهناك بعض الإجراءات التي أود اتخاذها لمصلحة فارس"
إجراءات؟ هه!! أي اجراءات ستغير مستقبل طفلي؟
كيف سيعيش فارس حياته؟ كيف سيلعب مع أصدقائه؟ هه إن حصل عليهم أصلاً!! من يرغب أن يلعب مع شخص لا يعبر عن نفسه؟ شخص يبدو وكأنه يلعب لعبة "ولا كلمة*" طوال الوقت؟ شخص يصيبك الإرهاق وأنت تحاول ملاحقة حركات يديه وقراءة تعابير وجهه ثم قد تفهم مايقصد أو لا؟ أنا خائفة أن يصبح طفلي عالة على مجتمعه لا يَفهم أو يُفهم!! يا الله! لم كان لزاماً أن تختار فارس لهكذا أمر؟ يا الله طفلي ضعيف ولا يقوى على ماحمّلته إياه...

"مريم.... مرااايم ردي!"
صوت اخترق عالمي، اهتززت إلى أخمص قدماي، نظرت بعيناي الجاحظتان إلى وجه سالم المنهك، ياترى متى أصبح جاثيا على ركبتيه أمامي؟ بل لكمٍ من الوقت أخذ ينظر إلى حزني وإنكاري المرتسمان على كل إنش من وجهي؟ عيناي الزائغتان إلتقتا بعينيه، ارتعشت .... كمية العطف المختبئة في عينيه هزتني، تشبثت عينيّ بعينيه "فا...رس... فارس.. أصم يا سالم" صوت ضعيف نطق بذلك..
هز رأسه بتعب إشارة نعم.. وفجأة دون سابق انذار انطلقت دموعي من محبسها مهددة بطوفان جارف ، بكيت .... بكيت كثيرا بنشيجٍ كنشيج حيوانٍ جريح، شهقاتي آلمته كثيراً بدا ذلك واضحاً في مقلتيه، لكن ذراعاه أحاطتني بدفء مهدئ.....

لا أعلم كم من الوقت مضى وأنا على هاته الحالة، كل ما أعرفه أنه مضى وقت طويل ودموعي لازالت لم تنضب، أيقظني من بؤسي نشيج سالم الخافت، انتفضت هلعه! وجهه كان قطعة من التعاسة فحسب! لا أجد وصفاً آخر ، كان يبدو وكأنه امتص حزني الدفين كله، سالم الرزين الهادئ، سالم الذي ينضح إيماناً وثقة بربه، كيف له أن يهتز هكذا... صاعقة ضربت عقلي، صوت هائل صرخ برأسي "هو إنسان أيضاً، فارس ابنه وأنت بردة فعلك ماتركت له من شيء يواري به حزنه!".
انتبه لتوقف بكائي، مسح عينيه بيده، ابتسم بحزن: "مرايم، هذي بتكون آخر مره نبجي فيها، زين؟ فطلعي كل اللي بخاطرج ماني قايل شي" هممت أن أستنكر، أقفل شفتاي بإصبعه بلطف: "خليني أخلص كلامي، فارس بيحتاج قوتنا، احنا أمه وأبوه لو شافنا ضعاف ومو متقبلين وضعه بيكره نفسه وعقبها بيكرهه الناس" اغمض عينيه بتعب واستنشق نفساً عميقاً: "مريوم، فارس بس مايسمع، الحمدلله يتحرك ويشوف وربي وهبه الجمال والقبول اللي يخلون الناس يحبونه، انه مايسمع مو نهاية العالم ترا وبعدين ماتدرين يمكن هالشي هديه من ربي وانه راح يفتحله آفاق جديدة" .. تنهد بعمق وكأن ماقاله تطلب كل هدوئه وقدرته على ضبط النفس..
أخذ نفساً عميقاً مجدداً وحاول أن ينظر إلى عينيّ يثبات بينما راح صوته يكرر في رتم أهدأ: "مرايم بقول هالكلام لج ولنفسي، هذي مونهاية الدنيا هذا ابتلاء ورحمة، انتي تعرفين ان الله إذا احب عبدا ابتلاه صح ؟ هززت راسي موافقة فنشيجي لم يهيئ لي فرصة للكلام، اصر قائلا: دامنا نعرف هالشي ليش بجينا وضيعنا أجر الصبر عند المصيبة الأولى؟، ازداد نحيبي شدة حتى اصبح صوته مؤلما لأذناي وطرأ لي فكرٌ سيء كيف له ان يتقبل بسهوله كون ابنه الوحيد اصماً! ابنه الذي بنى آمالا واحلاما عظيمة عليه! وكأن عيناي افصحت عن مافي داخلي فقد نظر لي بلوم قائلا برقة: "تدرين؟ افكارج سخيفه بس ماراح اواخذج عليها ادري فيج مو بحالتج العقليه السليمة الحين، تتوقعين ماني متأثر بالموضوع انا خايف خايف حييييل عليه ادري حياته بتكون صعبة وحياتنا بعد بس شنو اللي اقدر اسويه! دموعنا بتنفعه بشي؟ لا طبعا، مابيدي إلا إني أوكل امره لله تعالى وهذا اللي سويته وابيج تسوينه مثلي، شرايج؟" حادثني بلطف وكأنني طفل صغير، كان نشيجي قد هدأ، اخذت نفسا عميقا ورفعت نظري إليه قائلة بكآبة: "بحاول، ماوعدك لكن بحاول". نظر لي بحزم: "اتمنى فعلا إنج تحاولين ترا هذي البدايه يامريم إذا فقدتي اعصابج الحين شبيصير بعدين ! قدامنا مشوار طويل وعشان فارس وعشان نفسج بعد لازم تكونين قوية اوكي؟" ثم ختم جملته بحركة مرحة من يدية أبرز فيها عضلات ذراعه دلالة على القوة وشقت ابتسامة مرحة مزيفة وجنتيه باعثة بي بعض الأمل.

انهينا الموضوع عند هذه النقطة، فكلانا كان منهك بحيث لايستطيع التفكير بشكل عقلاني أكثر...
ذلك الوقت كانت قد غابت عنا أمور كثيرة، مثل كيف سنخبر أجداده الذين رسموا عليه أحلاماً كثيرة كونه أول حفيد في كلتا العائلتين، كيف سنتقبل خيبة أملهم؟ كيف سنؤهله ليحيا؟ كيف سنتفاهم معه؟ أين سيدرس؟ أهناك علاج يجعله يسمع أم لا؟ و و و .....إلخ!  كل هذه الأمور كانت ثقيلة على عقولنا المنهكة لحظتها بحيث لم نفكر بها حتى!



ثم مع موعد المستشفى التالي بدأت حينها ... وحينها فحسب رحلتنا التي تبدو طويلة مع المستشفيات.....



#يتبع في حينٍ آخر....

______________________
(ولا كلمة): لعبة تعتمد على الإشارات بحيث يقوم الطرف الأول بشرح كلمة عن طريق الإشارات دون صوت وعلى الطرف الآخر أن يستنتج ماهي.





بقلمي 
RAMAD*









هناك 5 تعليقات:

  1. كم هو رائعا ما نثره قلمك عزيزتي رماد فقد وصفتي مشاعرنا بدقة فكل ما أصابك من ذهول و شتات في التفكير و إنكسار في القلب قد أصابنا جميعا فكم هو مؤلم ذلك الإحساس المخيف . الصمت عالم بلا ألوان وان بدت الألوان بجمالها ولكن ستبقى لا معنى لها ولا جمال بدون أصوات تزينها و تكسوها جمالا . دمتي متألقة عزيزتي رماد ..

    أم عبدالله الحمازي

    ردحذف
  2. الحمدلله على كل حال وربي ماخذ من الإنسان شي إلا وعوضه بأحسن منه تحياتي
    أم رتاج💕💕💕

    ردحذف
  3. سلمت يمينك وصفتي مشاعرنا بكل ماتحمله الكلمه أسأل ربي أن يجعلني ويجعكم من الصابرين عند الصدمة الاولى،
    ننتظرك الباقي....

    ردحذف
  4. ابدعتي عزيزتي رماد
    بإنتظار المزيد🌹

    ردحذف
  5. سبحان الله نفس الموقف بتفاصيله مرينا فيه بعد فحص سمع ABR
    الحمدلله علي كل حال

    ردحذف